“مداخيلنا بالكاد تكفي لدفع أجرة المنزل أو لتعبئة المياه وفاتورة الكهرباء، ونمضي ما تبقى من الشهر، نحاول تأمين قوتنا، ولا نحصل على شيء يذكر. لدي 3 أطفال وزوجتي حامل، وأغيب عنهم طيلة 10 أيام كل شهر مقابل 300 ليرة تركية، ما يعادل 50 دولاراً، ففي أي منطق يكفي هذا المبلغ ليعيل شاباً عازباً، ولن أقول عائلة كعائلتي، فأرجوك لا تحدثني عن المزايدين على المقاتل الذي يترك القتال ليؤمن لقمة عيشه. ترك العمل في الثورة لا يعني ترك ما فيها ونكرانه، ويلي عم يأكل العصي غير يلي عم يعدها”. بهذه الكلمات وصف حسين حداد، مقاتل في “الجبهة الوطنية للتحرير”، الوضع المادي الذي يعيشه معظم مقاتلي المعارضة في إدلب.
ضيق مادي عام
مع توقف المعارك في محافظة إدلب في منتصف عام 2017، توقف الدعم المادي الذي يقدم للفصائل من جهات عدة، لا سيما إيقاف برنامج تسليح المعارضة السورية وتدريبها، المتمثل في غرفتي العمليات الأميركية “موك، موم”، حيث أعلن الرئيس الأميركي ترامب إيقاف البرنامج في تموز/ يوليو 2017، معتبراً إياه “ضخماً وخطيراً وغير فعال”، مع الانحسار التدريجي للدعم الخليجي المقدم للفصائل الإسلامية وعلى رأسها “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”، لتدخل الفصائل العسكرية في مرحلة حرجة.
استطاعت الفصائل العسكرية التكيف لمدة عام تقريباً، بتقديم المستحقات المالية لمقاتليها والسير في تنظيم عملها وتبعاته، إلا أنها وصلت أخيراً إلى مرحلة لم تعد باستطاعتها الاستمرار، ودخلت معظم الفصائل العسكرية الصغيرة تحت راية الفصائل الأكبر تدريجياً، الأمر الذي ظنوا أنه سينجيهم من سوء الأحوال المادية.
اللاعب التركي يدعم حسب شروطه
وقال قيادي بارز في “الجبهة الوطنية للتحرير”،: “بعد الصعوبات المادية التي واجهتها الفصائل، تدخلت تركيا من طريق فصيل فيلق الشام التابع لها ضمنياً، وبدأ بجولة على الفصائل محدثاً إياهم عن نية تشكيل الجبهة الوطنية للتحرير، على أن تنضم فصائل الجيش الحر تحت هذا التشكيل، مقابل الحصول على دعم مادي مستمر من تركيا. وبالفعل وعلى رغم رفض عدد من الفصائل الاندماج في بداية الأمر، إلا أنه تم الإعلان عن “الجبهة الوطنية” في الأول من آب/ أغسطس 2018، وما إن انتهى العام حتى كان فصائل الجيش الحر في ظل هذا الاندماج، ما عدا فصيل جيش العزة العامل في ريف حماة الشمالي، وهو الفصيل الوحيد الذي لم ينضم إلى الجبهة من فصائل الجيش الحر”.
تقدم تركيا دعماً مالياً متمثلاً بمبلغ يعادل 100 دولار، عن كل مقاتل لدى الفصائل، وتقوم المخابرات التركية بتحديد عدد كل فصيل، بحسب قوته على الأرض، وينال النصيب الأكبر من الدعم “فيلق الشام” والذي تقدر تركيا أعداده بقرابة الـ20 ألف مقاتل، وتتراوح أعداد عناصر الفصائل من ألف إلى 10 آلاف مقاتل، يتم تحديدهم وتحديثهم بشكل شهري، وذلك بحسب القيادي في الجبهة.
إضافة إلى ذلك، أوضح القيادي ذاته أن الغاية من حصر الدعم المقدم من تركيا فقط، هو ضبط القرار السياسي وإرغام الفصائل على تنفيذه. وقد يتم تخفيض الدعم أو قطعه عن إحدى الفصائل في حال رفضها مخرجات اتفاق ما أو لعرقلة تنفيذ أمر معين، خاتماً حديثه “بصراحة أصبحنا مرهونين بشكل شبه كامل للإرادة الدولية ولكن لا سبيل حالياً إلا للمسايرة”.
30 في المئة تركوا السلاح ليعيشوا!
انخفاض الدخل الشهري للمقاتلين، وعدم تمكنهم من تأمين المستلزمات المعيشية، فرضا على كثيرين ترك القتال والتوجه إلى العمل المدني لتأمين لقمة العيش.
افتتح علي الغالي محله المتواضع لغسيل السيارات في مدينة إدلب، وذلك بعدما عمل 6 أعوام في فصائل الجيش الحر، يقول علي: لست راضياً عن تركي العمل في الثورة، فهي بحاجة إلي، ولكن لا سبيل لدي، فقد أثقلتني الديون ومن واجبي أن أقوم بتأمين حياة كريمة لعائلتي، العمل في مغسل السيارات يؤمن لي قرابة الـ200 دولار شهرياً، وهذا المبلغ يكفي لأستر نفسي ولا احتاج إلى أحد، بينما لو بقيت في الجيش الحر لكنت اليوم غارقاً في الديون التي لن أستطيع أن أهرب منها.
ويكمل علي حديثه: ” نعيش اليوم حالة هدوء نسبي بلا معارك، وفي حال عودة التوتر والقتال فإنني سأترك عملي وأعود للقتال، وما أقوم به اليوم هو نوع من ضرورات المرحلة التي نعيش فيها”.
تقدر نسبة المقاتلين الذين تخلوا عن القتال وتوجهوا إلى العمل بـ30 في المئة، ويعمل أغلبهم في الأعمال التي لا تتطلب خبرة، كالمتاجر الصغيرة والصناعات البسيطة.
هيئة تحرير الشام “النصرة” سابقاً تستغل الموقف وتستقطب المقاتلين
“كنت أمام حلين لا ثالث لهما، إما أن أترك الثورة والسلاح أو أن أنضم مرغماً إلى صفوف الهيئة، يقول رامي العمري مقاتل سابق في الجيش الحر، ويعمل اليوم في أحد الحواجز لدى هيئة تحرير الشام.
على رغم الضائقة المادية التي تمر بها فصائل الجيش الحر، إلا أن هيئة تحرير الشام تعيش اليوم حالة من الرخاء المادي والسعة الكبيرة، بخاصة بعد سيطرتها على الموارد المالية في محافظة إدلب، من معابر حدودية وأخرى داخلية مع مناطق النظام، إضافة إلى هيمنتها على تجارة المحروقات والسلع الرئيسية، وكذلك فرضها الضرائب المتنوعة على أهالي إدلب.
يضيف رامي: “كنت أعمل في فيلق الشام وراتبي كان لا يكفي لشيء، ووصلت إلى مرحلة حرجة مادياً، وكان علي تأمين مصدر رزق مهما كلفني الأمر، واخترت الانضمام إلى صفوف الهيئة لا حباً بها، وإنما لأن الرواتب التي تقدم لنا هي أفضل، فهنا أحصل على 100 دولار شهرياً، إضافة إلى بعض الحوافز والمواد الغذائية وهي كافية إلى حد ما”.
لم تقتصر الحلول التي يسعى إليها المقاتلون، للحصول على المال، عبر العمل والسعي إلى تأمين الدخل، بل لوحظ انتشار حالات السرقة والتشليح في عموم محافظة إدلب
استغلت الهيئة الضعف المادي المنتشر بشكل كبير، من طريق دعوتها للانضمام وتقديم مغريات للمقاتلين من سلاح ومال، إضافة إلى النشرات الإعلامية ومكاتب الانتساب المنتشرة في إدلب، مع تسهيلات للمقاتلين، كغض البصر عن التدخين الذي كان يعد من الممنوعات.
انتشار السرقة والتشليح
لم تقتصر الحلول التي يسعى إليها المقاتلون، للحصول على المال، عبر العمل والسعي إلى تأمين الدخل، بل لوحظ انتشار حالات السرقة والتشليح في عموم محافظة إدلب، كسرقة الدراجات النارية أو عمل الحواجز الطيارة وتشليح عابري الطرق، بخاصة في المناطق النائية وقليلة الحركة ويكاد لا يمر يوم من دون حصول حالة سرقة أو ما شابه في عموم محافظة إدلب، ومنفذو هذه الأعمال، هم بمعظمهم من المسلحين، وغالباً ما يكونون مقاتلين سابقين أو حاليين في الجيش الحر.
دعم كبير يكفي لسنوات ولكن “فص ملح وداب”
تلقت الفصائل العسكرية في إدلب مبالغ مالية ضخمة خلال سنوات الثورة خاصة بالفترة الممتدة من 2012 حتى 2015 فقد كانت تحصل الفصائل على عدة مصادر دعم دولي بملايين الدولارات ولكن هذه المبالغ عموما ذهبت بين الرفاهيات التي منيت بها قادة هذه الفصائل أو اختفت في سرقات لمبالغ ضخمة من قبل أحد القيادين أو الكوادر في الفصائل ذاتها، لتصل اليوم إلى حالة مادية مزرية، لا تنعكس فعليا إلا على الأفراد والجنود المنضوية في صفوفها.