“كحك العيد” عادة فرعونية.. باحثة أثرية تؤكد
حكاية: الباحثة الأثرية إيمان عصام
تتنوع مظاهر الاحتفال بعيد الفطر ما بين كساء وطعام، ولا تكتمل فرحة عيد الفطر دون أن نتذوق طعمه الذي نستمتع به في كل عام، فعند ذكره أو رؤيته نشعر أن العيد قد بدأ، ففي كل عام يهل علينا عيد الفطر بنسائمه وقبلها بعدة أيام يبدأ الجميع رحلة التحضير والتجهيز لذلك اليوم وخاصة تجهيز حلوى العيد “الكعك”، ولكعك العيد جذور أقدم من ذلك بكثير لا ترجع لشهر رمضان وعيد الفطر فحسب، إنما تعود إلى مصر الفرعونية حينما كان يصنع الكعك من السمن والعسل والدقيق و الذي علمناه من مقبرة “رخميرع” في الأسرة الثامنة عشر والتي صُور على جدرانها مناظر للكعك وصناعته، وكذلك أشكاله و أنواعه التي وصلت لحوالي مئة نوع من الكعك، وعرف وقتها باسم “القرص”. فالكعك في الأصل ما هو إلا تراث مصري، و لكنه ارتبط بعيد الفطر المبارك منذ العصر الطولوني(254-292هــــــ /868-905م) على وجه الخصوص عندما كان يصنع في قوالب خاصة محفور بها عبارة “كل وأشكر”.
ولما لكعك العيد من مكانه في نفوس المسلمين والمصريين على وجه الخصوص نجد في العصر الإخشيدي(323-358هــــــ/ 935-969م) وخاصة في عهد الوزير أبو بكر بن محمد نوع جديد من الكعك بل مميز حيث كان يوضع في كل كعكة قطعة دينار ذهبية و أُطلق عليه أسم “أفطن له” فكان كل من يأكل الكعك في عهده يجد داخله ذلك الدينار الذهبي مما يشعر آكلة بالبهجة وهو ما يشبه إلى حد كبير تقليد العيدية الذي نعرفه اليوم فيما بيننا وقد يكون نوع من أنواع المساعدة المادية لغير القادرين ومحتاجين ذلك العصر، فيحمل هذا التقليد الكثير من المعاني السامية.
ولم يتوقف الاهتمام بعيد الفطر وكعكة عند هذا الحد بل استمر في العصر الفاطمي (358-567هــــــ/ 969-1171م) ووصل من التطوير إلى حد الإبداع فلقد خصص الخليفة الفاطمي دار كاملة لتقوم على شئونه وهي دار الفطرة (دار خاصة بالدقيق و السكر و الفستق) فكانت تبدأ التحضير له منذ شهر رجب وحتى نصف رمضان ويتم خلال العيد توزيع الكعك على كل أطياف الشعب من خلال تلك الدار بتكلفة كانت تصل لعشرين ألف دينار، كما اشتهر العصر الفاطمي بتعدد الأشكال الفنية التي كانت تنقش على الكعك فلقد وصل لنا الكثير من تلك الأشكال التي تنوعت ما بين كلمات تكتب على النقوش ككلمة “هنيئاً” وما بين أشكال هندسية ، ونباتية ، وأخرى حيوانية كأشكال الغزلان والطيور مما جعل شكل الكعك أكثر بهجة وتنوع يجعل من يراه يريد أن يتذوق طعمه، ومن المعروف عن العصر الفاطمي الأبهة والفخامة فلقد كان يقدم الكعك في أطباق من الذهب و أخري تحمل أشكال فنية بديعة، كما كان يغطي بفوط خاصة كانت تصنع خصيصاً لكعك العيد، و لما كان للكعك من مكانه في نفوس المصريين تنظر لتجده قد صار محط أنظار الطهاة و الخبازين فتباروا في مهارة صنعته فنجد تلك الطاهية التي اشتهرت بصناعته في العصر الفاطمي لدرجة أن سمي على اسمها كعك “حافظة” فلقد نسي الناس كلمة كعك العيد و أطلقوا عليه “كعك حافظة” لما برعت فيه من طعم خاص بها ميز كعكها عن أي كعك آخر سبقه أو جاء بعده.
ولم يتوقف كعك حافظة عند العصر الفاطمي بل استمرت حافظة وكعكها في العصرين الأيوبي و المملوكي، كما استمرت عادة صنع كعك العيد حتى في العصر الأيوبي (588-647هـ/1174-1250م) و الذي اشتهر بحربه ضد أي طقس أو بدعة ابتدعها الفاطميون و السبب في ذلك أن الكعك فعلياً لم يكن اختراع الفاطميون ولكنه سبق وجودهم بالآف السنين عندما عرفه الفراعنة وصنعوه في أعيادهم، بالإضافة إلى أنه عرف في عهد الإسلام منذ عهد الطولونيين ففي عهد الفاطميين لم يكن الكعك سوى عادة موجودة وكل ما قاموا به حينها هو التطوير فيه و إضفاء شكل فني عليه أو إضافة طعم جديد فاجتمع ذلك كله وميز كعكهم عن السابقين، ولما كان لكعك العيد من مكانه في نفوس المصريين نجد أن الشعراء أشاروا إليه في قصائدهم كالشاعر المصري الجمال أبو الحسن الجزار والذي كتب عدة أبيات طريفة في كعك وحلوى العيد.
واستمر الاهتمام بكعك العيد في العصر المملوكي (647-922هـ /1250-1517م) فلم يتخلى المماليك عن تلك العادة فلقد حافظوا على الكثير من العادات فنجدهم اهتموا بتوزيع الكعك على الفقراء و المحتاجين، واعتبروه صدقة إطعام يأخذوا عليها الأجر والثواب، كما كانوا يتهادوا به فيما بينهم.
وكما اشتهرت تلك العصور بالاهتمام بالكعك لم يغفل أيضاً العثمانيين (923-1213هــ/1517-1798م) الاهتمام به وتوزيعه على التكايا و المتصوفة و رجال الدين، وعلى مر العصور و اختلافها لم يتوقف كعك العيد و اهتمام العامة به قبل الخاصة، فمع مرور الوقت اختفت عادة قيام الدولة وحكامها بتوزيع الكعك، وتحول العامة إلى أن يحافظوا هم أنفسهم على عادة صنع الكعك، وتمثل ذلك في تجمع نساء العائلات و الأطفال و تحضيرهم لكعك العيد وتصنيعه مع بداية العشر الأواخر من رمضان، فيسهروا كل ليلة من بعد الإفطار ومعهم أدواتهم وطرقهم الخاصة في صناعته مما كان يخلق جواً من الألفة والمحبة ويخلق روحاً من التعاون بين أفراد العائلة، كما كان له من الطعم ما يميزه عما يعيشه الإنسان الآن من حداثة وتطور افقده لذة الشعور بتلك الأيام و جعله يعيش في قالب واحد كالآلة يحضر كعك العيد من المحال ويأكله كعادة فقط لا أكثر مما يفقد العيد بهجته الحقيقة.
فكعك العيد بدأ كعادة تدل على الفرحة والجود والتمسك بعادات لم تبدأ بالأمس القريب ولكنها أصبحت تراث ذو تاريخ طويل ممتد الجذور.